كتب أحدهم، ممن تم التمكين لهم في السنوات الأخيرة، فعاث في الصحافة والثقافة والإعلام فسادًا وإفسادًا، على حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "عَقَدَ الخلائقُ في الإله عقائدًا/ وأنا اعتقدتُ جميعَ ما اعتقدوه"، وهو قول منسوب لـ"الحلاج"، ويعني أن يجمع المرء بين التوحيد والشرك في آن واحد!!
ورغم أنه نال ما يستحق عبر تعليقات نشطاء الفضاء الإلكتروني؛ ما دفعه ابتداءً إلى تعديل خصوصية التعليقات، ثم حذف المنشور انتهاءً، فلا جدال في أن كثيرين ممن يتصدرون المشهد الإعلامي والصحفي يؤمنون بـ"الحلاج" وأقرانه إيمانًا تامًا، ويكادون يتخذونهم أنبياء ورسلاً وهداة ومرشدين لهم. وهم يعظمون "الحلاج" بنفس القدر الذي يتطاولون به على رجل مثل إمام الدعاة إلى الله الشيخ محمد متولي الشعراوي مثلاً وليس حصرًا، وكأنهم صاروا من أبنائه وأحفاده!
الحسين بن منصور الحلاج هو واحد من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي. يراه قليلون رجلاً شديد الإيمان والتعلق بالله بمنظور صوفي فلسفي معقد، فيما يراه كثيرون جدًا أقرب للزندقة والإلحاد؛ بسبب مواقفه وأفكاره وأشعاره.
نشأ "الحلاج" في العراق، ثم تنقل بين عدة مدن وولايات، منها: الهند، وقضى فترات في مكة، معتزلاً في الحرم المكي، حيث عرف الناس عنه أنه إذا جلس لا يغير جلسته أو موقعه فى الليل أو فى النهار، فى الحر والبرد، كما عُرف بقلة طعامه، وزهده في كل شيء، وكان له مريدون يتبعونه، ويحفظون عنه.
اصطدم "الحلاج" بالجنيد البغدادى الذي كان أستاذًا له، ولكن الأخير لم يكن راضيًا عن فكره، وفلسفته، فكان أن قال ذات جدال لـ"الحلاج": "أي خشبةٍ ستفسدها"؟، كناية عن قتله مصلوبًا، وتحققت نبوءة "الجنيد" بصلب تلميذه "الحلَّاج" فعلاً، ولكن بعد موته!
عُرض "الحلاج" الذي عاش بين عامي 858 ميلاديًا -922 ميلاديًا- للمحاكمة، بتهمة الزندقة والكفر، حيث جادله الفقهاء والقضاة في آرائه، حتى وصل أمره، إلى يد الخليفة المقتدر بالله عن طريق وزيره حامد بن العباس، فوافق الخليفة على إهدار دمه، وصادق على حكم إعدامه الذي أصدره القاضي أبو عمر المالكي، فتم إعدامه بطريقةٍ دموية!!
في السادس والعشرين من مارس عام922 ميلاديًا..اقتيد "الحلاج" من محبسه وجُلد جلدًا شديدًا، ثم صُلب حيًا حتى فاضت روحه إلى بارئها، وفي اليوم التالي قُطع رأسه وأُحرق جثمانه، ونُثر رماده في نهر دجلة، وقيل: إن بعض تلاميذه احتفظوا برأسه!!
ومع الرفض التام لسيناريو نهاية "الحلاج" ومأساويته، فإن فكرة المؤامرة على "الحلاج" لا تبدو مقبولة بشكل كبير؛ لأن كثيرًا من مواقف الرجل وأقواله وأشعاره لا ينصفه ولا يثير التعاطف معه على أي حال، كما إن شهادات معاصريه لم تخرجه من دائرة الشك والريبة والتطجين، ولا يصح أن علماء زمنه جميعًا يأتمرون عليه ويكيدون به ويمكرون له، هذا لا يردده سوى أنساله وأتباعه ومهاويسه!
كان "الحلاج" يقول عن نفسه: "أنا الله"، وأمر زوجة ابنه بالسجود له، ولما سألته مستنكرة: "أو يُسجَد لغير الله"؟ فأجابها: "إلهٌ في السماء وإلهٌ في الأرض". تلك الواقعة يؤكدها قوله بالحلول والاتحاد، وزعمه بأن الله تعالى قد حَلَّ فيه ، وصار هو والله شيئًا واحدًا، تعالى الله عن ذلك علًوًا كبيرًا.
يعتقد المؤرخون أن تلك الإشكالية الأخيرة جعلت "الحلاج" محبوبًا مقبولاً عند المستشرقين وكارهي الإسلام بالسليقة، على غرار ذلك الموهوم الوارد ذكره في بداية المقال. كما يُنسب إلى "الحلاج" أنه ادعى قدرته على الإتيان بمثل القرآن الكريم. ومن أشعاره التي فتحت عليه باب الاتهام بالتكفير والزندقة قوله: عَقَدَ الخلائقُ في الإله عقائدًا/ وأنا اعتقدتُ جميعَ ما اعتقدوه؛ ما يعني أنه يصح للمرء الجمع بين التوحيد والشرك في آن واحد، وزاد على ذلك إبطاله أركان الإسلام. كان "الحلاج" يزعم أن أرواح الأنبياء أعيدت إلى أجساد أصحابه وتلامذته، فكان يقول لأحدهم: "أنت نوح"، ولآخر:"أنت موسى"، ولآخر: "أنت محمد"!!
إن صحَّت نسبة هذه الأمور -وغيرها كثير- إليه فإنه لا يمكن فهمها بعيدًا عن سياقها أو تأويلها على النحو الذي يتبناه أصحاب نظرية المؤامرة على "الحلاج"، وإظهاره في صورة الشهيد المغلوب على أمره. عندما سُئل ابن تيمية رحمه الله عن "الحلاج" أجاب: "َمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْحَلاجَ بِخَيْرِ لا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلا مِنْ الْمَشَايِخِ; وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقِفُ فِيهِ; لأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَهُ"..فيا أيها "الحلاليج"..ادخلوا مساكنكم، وأغمدوا أقلامكم، وابلعوا ألسنتكم!